القائمة الرئيسية

الصفحات

ذكريات مدرسيّة عن المرحومين العلمين سهيل عثمان و وليد قنباز



مازلتُ أذكرُ حتى الآن بقـايا صـور عالقـةً فوقَ مِشجَبِ الذّاكـرة توشّيهـا دُررٌ و طرائف من كلمات أستاذنـا الجليل سهيـل عثمان (رحمهُ الله) كانت تنساب من لسانِـه الطّلقِ الرّشـيق دون تلعثمٍ أو تبـَرّم ، و هو يردّد مقولةَ كانتْ الشـهيرة :
(لو أنّ سعادةَ البشريّـة تتحقّـق بقتل طفلٍ بريء .. لكان ذلـك جريمَةً لا تُغتـفَر).
كان أقراني طلاّبُ البكالوريا الأدبي المستلقونَ حينَها في أحشاءِ مقاعدهـم المتهالكةِ مستسلمينَ بعمقٍ إلى وسواس النّعاس في حصّـة الفلسفـة الجافّة في يومٍ ربيعيّ دافئ يُشَـاطِئُ منتصَفَ نَيسـانَ ذكرى جـلاء المحتل عن ثرى الوطـنِ العزيز موطنِ البطولات و الأمجـاد ، وموعـدَ جلاء طـلاّب الشهادة الثـّانويّة عن مدارسـهم كطقسٍ متـوارث أثير ، و تقليدٍ متـّبعٍ تليـد استفحـلَ على مِبْضَـعِ التغييـر و التجـديد ..
وعلى حينِ غِرّةٍ تنبّه الطلاّب و استفـاقوا من إغفاءَتـِهم كمـن لدغتهم أفعـى ، و فَـغُروا أفواهَهم من أثرِ الدهشةِ و الارتياب عندَ تناهـي هذا القولِ إلى مسـامعهم ، ثمّ تجـاذبوا فيما بينهم أطرافَ الحديث ، وبعد هنيهات بـدأ المناقشون بشحذِ أفكارهم و صقـلِ ألسنتهم قبلَ أن يُمطروا معلّمهـم القدير بهـاطلٍ من الأسئلة المحرجة كانت تنهمرُ من أفواههـِم بغيرِ ترفّقٍ أو استئذان :
- لمن هذه المقولـةُ يا أستاذ ؟
فيجيبـهم بانزعاج ظـاهرٍ و قد تورّد وجهُه الغضّ ، و انتفخت أوداجُـه الناعمة :
- كأنكم في شُغْـل عنـّي و عن متابعـةِ الدّرس لقد أسلفـت مِراراً و تكراراً أنّها للفيلسوف الألمانيّ إيمانويـل كانط.
بَيْـدَ أنّـنا وعلى الرّغـم من معابثـَتنا لـه، فقد كان الكلُّ مُجمعـينَ على رحابةِ صدرِ مدرّسهـم و على ارتفـاع سقف أدبـِه ، و مازلتُ محتفظـاً بصـورة صفحـة كفـّه اليسرى التي قلّما كانت تبرحُ فمـَه أثناءَ حديثـِه ، حتى لا يُصيبَ نثـارُ من لُعابـه وجـوهَ الطـلاّب قُبَـالتَه ، و بخاصَّـةٍ في أثنـاء فـورةِ الغضبِ والانفعال.
وما يلبثُ أحدهـم أن يُبـَادرَه في تَـذاكٍ و تخابُث :
- هلْ بإمكـانِ هذا القـول أن يعتليَ أرائِـكَ التّنفـيذِ و التّطبـيق في ظـلِّ واقـعٍ مأفـون يُطْـبِقُ فيه الأقويـاءُ براثنَ سيـطرتهم على أنفاسِ الضّعـفاء و المحرومين ، و يغتالونَ أحلامَ وطموحاتِ أولئـك الذينَ تزدحمُ بقضّـِهم و
قضيضهم دولُ عالمِـنا النّـامي و ربـوعُ مدنـِه و قُـرَاه .. وحتّى حواكيـرِه.

- طبعـاً و لمَ لا؟ وقد كفلتٓه الشّرائعُ السماويّـة و القوانين الوضعيّة كأحدِ أهـمّ بنودِ حقوق الإنسـان التي رعتـها منظمة الأمم ، و تبنّتها الدولُ المتحضرة التي ما فتِئَـت في كل محفلٍ و مجمَـع ترقصُ مزهـوةً على أنغـام شعاراتها البرّاقة و ادّعاءاتها المعسولـة باحتضان هـذهِ المبـادِىء وحمايتها.
- ولكنّ الولايات المتحدة -أستاذَنا الكريم - لم تـُلق بالاً و لـم تُقـِمٓ وزناً خلالَ الحرب الكونيّة الثـّانية لمثلِ هذه القواعـِد الأخلاقيّة الخالدة حين ألقت حِمَـمَ قنابلهـا الذريّة على مدينتي هيروشيما و ناغازاكي فأزهقـت بطرفـةِ عين أرواحَ مئتي ألفٍ من سكّانهـا الآمنـين !! لا لجريمةٍ ارتكبوها أو جريرةٍ اقترفوهـا سوى أنّهم من أبنـاءِ عدوّتهم اللّدودة (حينَهـا) اليابـان بهـدفِ تمريغ أنفِهـا بأوحالِ الذلّ ، و إرغامهـا على تجرّعِ مرارة الهزيمـة و الاستسلام. ثمّ ما يبرحُ وطيسُ النقاش أن يشتدّ ، و حرارةُ الأخـذ و الردّ أن تحتدّ ، فكان أستاذُنا البارعُ بذكائـه الحـادّ و علمِـه الغزير يُلطّف سخونـةَ الجـوّ بأيةٍ كريمـة أو حديثٍ شريف يُحرّم القتلَ عموماً إلاّ بالحـقّ .. ليدلّ على أسبقيّـة مناهلنا الروحيّـة بحماية حقّ بني البشر بالحياة مهما اختلفت ألوانُهم و تعـدّدت أشكالُهـم و تباينَتْ معتقداتُهم .. فتُعـَاودُ أنفاسُ الهدوءِ و السّكينة بالتسلّـل إلى أذهان الطـلاّب بعدَ هذا الفاصلِ الفلسفيّ النّشِط ، ويُهيمنُ سلطانُ النّعـاس من جديد ، و يحـطّ طائرُه فوق أعشـاشِ رؤوسِهـم المتْعـبة ، فيأخذهم قِسطُ من وَسًَـنٍ أو ربّمـا سِنَـةُ من نوم. ولعلّ مبعثَ إرهاقهِـم هـذا ناجمٌ عن مَشيهِـم اليوميّ الطويل على الأقـدام من أحياءِ مدينة أبـي الفداء كافّـة ، و من أريافها المحيطـةِ إلى ثانويّـة قدري العـمر ( التجارة ) الغافيـةِ حينَـها وسطَ فـلاةٍ مُوحِشـة لا يُؤنسُ وحدتَهـا إلا بقايا أطلالِ الثـُّكْنَة ، و جارٌ أخرُ ثقيلٌ لم يكن من مجاورته و تحمّل روائحـه بُـدُ أو مَفـَرُ ، هو ( معملُ الزّيت ) ، لذا فقد كان إيصادُ نوافذِ الصّفوف و أبوابِها في الحرِّ و القرّ الملاذَ الآمن لتجنُّـب نفثات دخـان المعمل و مداراةِ سمومـه و مضـارِّه التي ما برحَت تلهبُ صدورَ السّاكنين مِن حَولِـه ، و الحالمينَ حتى وقتِـنَا الحـالي بانتقـَال هذا التنـّين المسعور إلـى مكانٍ بعيـد ناءٍ عن العمران و السكـّان. و الآنَ .. بعـد مُضِـيّ سنواتٍ طويلة على تلـك الصّورِ المطليّةِ بالأسودِ و الأبيـَض و تعـاقُب الأجيـال ، و على مفـارقـةِ أستاذنا الحكيـم سهيل عثمان دُنيانـَا الفانيـةَ إلى جِـوار ربّـه .. ( أو صهيب كما كان يحْـلو لبعضِ معـارفه أن ينعتـُوهُ به ) نستذكـرُ أفكـارَه الحداثيّـةَ الوارفـة بكثيرٍ من الدّفءِ و الحَميميّـة مضمّخَـةً بدمـاثة خُلقـه و عُلوِّ كعبه فوقَ منـابرِ الفلسفَـة و الآداب ( له آثارُ عديدة منها كتابُـه المطبوع : المحصول الفكري للمتنبّي بالتعاون مع منير كنعان ) ، و نرنُـو بأبصارنـا إلى هذا العالمِ الواسع لنتـَلمّسَ أصداءَ هذه المقولةِ و مثيلاتِهـا فلا نعثـرُ لها على أثَـر ، و لا نجِـدُ في رحلةِ بحثِـنا غيرَ السّراب و العَجَـبِ العُجَـاب ، و غيرَ حمـّى الانفصام بين ما غَرَفنـَاهُ من بطـونِ الكتُب و مـا عرفناه في مُعتـَرك الحيَـاة. و في كلّ يوم تصفـَعُنا صورٌ نازفةٌ لألوفِ الأطفال اليتـامى ممّن طحنَتـهُم و أهليهـم أشداقُ الموت الزّؤام دونَ وازعٍ من رحمـة أو واخزٍ من ضمير .. و دونَ الاكتراثِ بطفولتهم الحالمة بالأمانِِ و المـرح على أكتافِ قوسِ قُزَح ، و لا نكـاد نسمعُ من أدعياءِ حقوقِ الإنسان غيرَ فحيح الكلمات و نقيق الصّيحات ، و من منظّمة الأممِ المتنافـرة إلاّ سوالفَ الأرقِ و القلـق .. و أكاذيبَ شتـّى من أفواه شـرّ ما خلـَق. وعودٌ على بَدْء : ما زلت أذكر أستاذاً باذخاً آخـرَ.. صوتـُه لمّا يزلٓ ناشـراً جناحيـهِ في أوديـة الوجـدان ، لم أسمعْ قطّ أكثرَ بهـاءً و لا أشـد مضاءً من عذوبـة ألفاظهِ ، و لا من سحـرِ بيـانِه... كان صوتـُه نسيجَ وَحٓـدِهِ ، يرتفع حينا عندما تُسرجُ الكلمات خيولَ الطّعـانِ و النّـزال ، و حينـاً آخـرَ ينخفض وئيـداً فيرف كنسمة ربيعيــةٍ تهفهف آتيـةً من درسِـه في (شعبة العلمي المجاورة) ، فيبرقُ ذهـبُ الصـّمت ، و يرهـفُ الطـلابُ جميعـاً أسمـَاعَهم لذلك اللّحـنِ الشجي تترنّـم به شفتـا الأستـاذ الأديـب وليـد قنـباز (رحمه الله) مسافراً بين مطـارِف الكلمـاتِ و مطـارحِ القُـلوب. و ذاتَ مرّة حانت منه التفاتـَةُ ، فافترّ ثغره عن ابتسامـة الرّضى و القبُول لمّا رأى طـلاّب الشعب الأخرى تضيقُ بأعدادِهـم أرجـاءُ السّاحـة العُلْويـّة على رَحْبِهـا وهـم يُنـصتون إليه كأن على رؤوسهـم الطـّيرُ .. و هـو يردّد على مسامعِ طـلاّبه (العلمـي) قصيدةً منهـا بيتُ أديـب إسحاق المعروف من مُقـرّر الأدب الحديـث : قَتلُ امرئٍ في غابة جريمةٌ لا تُغتَفرْ و قتلُ شعبٍ آمنٍ مسألةُ فيها نظرْ !!

بقلم: عُمَـر فـارس يونُـس
هل اعجبك الموضوع :
التنقل السريع