القائمة الرئيسية

الصفحات

حي الشرقية في مدينة حماة الحي الذي لا ينام



الجزء العاشر

           هذي حماة مدينةٌ سحريةٌ وأنا امرؤٌ بجمالها مفتون
لماذا أراها الأجمل والأفتن والأحلى والأغنى والأدفأ ؛ بل لها كل صفة محببة في الكون !! هل هي كذلك أم أنا امرؤٌ غير منصف وقد طوَّفتُ في بلاد كثيرة فيها من الجمال ما فيها !! لقد أجابني شاعر عربي بيني وبينه آماد :

وحببَ أوطانَ الرجالِ إليهمُ مآربُ قضَّاها الرجالُ هنالكا

هي وتر في رئتي , وهي عرق في جسدي , ووريد من أوردتي , فكيف يبتعد عنها خيالي وحبي وودي !!
هذه "السهلة" هي رئة الحاضر الكبير , هي سلة الخير كله : تبث الحياة في أحياء الحاضر كلها , و يبدأ السعي فيها من عتمات الليل الأخيرة , ليعدها أصحابها لتكون مفتاح الرزق الحلال لهم , وفي الصباح الباكر تتدفق أمواج من البشر من أهل حماة , ومن القرى , ومن البادية كل يسعى لمطلب يطلبه.
وكان البدو غالباً ما يستعينون بأهل المدينة , ويؤسسون شراكة بين الحاضرة والبادية يتبادل الناس فيها المنافع .. عرض السهلة بين الخمسة عشر متراً وبين العشرين من الجنوب إلى الشمال , أما الطول فيصل إلى ثلاثين مترأ من الشرق إلى الغرب , وهي تمتلئ في وسطها بعربات متحركة على ثلاث عجلات أو أربع بحجم عجلات الدراجة الهوائية , والعربات عليها فواكه تُباع في موسمها (التوت الحموي , التوت الشامي , المشمش , الخوخ , البرتقال , اليوسف أفندي (الكرمنتينا) , الليمون , الدراق , ثم : الزيتون , البطاطا , والكمأة (الفقع) , الذرة , وغير ذلك). والفواكه كلها موسمية : صيفية , وخريفية , وربيعية.
وهناك بسطات: (البسطة) مكان على الأرض فيه مفرش خشبي أو من قماش , تسكب عليه البضاعة المراد بيعها , وكانت متنوعة جداً وغير منسقة , فما تجده اليوم , قد لا تجده غداً , ومن أشهر البسطات الثابتة واحدة لـ "كرمنجو" وكان يبيع أرغفة الخبز الطازج , ثم بسطة للخضار " القرمة , والبظ" , وبسطة لبيع بقايا اللحم ورديئه (الفشافيش) بعد شيّه وتصاعد رائحة اللحم المشوي , وانتشار دخان الشيّ , وكان عليها أكثر من بائع يعلو صوتهم على جميع الأصوات : أربعة(أسياخ) بربعية (بخمسة وعشرين قرشا أي بربع ليرة).
وكان هناك نوع آخر للبائعين هنا حيث تتزاحم الأقدام , يحمل أحدهم صدر "الشعيبيات" على رأسه (واحدتها شعيبية وهي قطعة حلوى مثلثة بحجم كف اليد في داخلها إما "قشدة" وإما جوز ومغطاة بعجين هش براق بعد الشي في الفرن تسبح بالقطر السكري وبالسمن البلدي) , ويرفع البائع بيده حاملاً خشبياً له ثلاث أو أربع أرجل كالسلم ينتهي بدائرة , ويضع الحامل في المكان الخالي , ثم يضع الصدر فوقه , ويبيع للزبائن الكثر , وقد يكون مثيل لهذا البائع من يحمل على رأسه صدراً من التوت , أو التين , أو غيره , وكان التزاحم على الأماكن في هذا المكان الضيق مدعاة للمشاحنات بشكل دائم.
وللمناداة على البضائع أساليب وطرق وأنغام تكون شائعة أحياناً لدى أكثر من بائع , وقد تكون خاصة يخترعها بائع متفرد مثل "عبد المعين الشعار" الذي ينادي على الليمون بقوله : (وصفوك للكوليرا يا حامض) , وإذا باع الخرنوب , وقليل من يشتريه كان يقول : وهو يشكو (ضمناً) من قلة المشترين في ندائه : (أيامك سودة يا خرنوب) , أما بائع الخوخ فيقول : (بغباره يا خوخ) أو (دايخ دوخ يا خوخ) , البطيخ الأحمر : (عالسكين يا بطيخ "يا جبس") أو (مال أيو ياخيو) و"أيو" قرية مجاورة لحماة أو (بقلاوة يا جبس) , أما الخيار فله (حوش (اي قطف) الندى يا خيار) أو (من بين اللوبيه يا خيار) أو (ورجي يا خيار) نسبة إلى منطقته , الباذنجان (أبو العيال يا باذنجان) , التين : (من بين الدوالي يا تين) أو (جبلي يا تين) أو (عرايشي يا تين) أو ( من حلاتو شقشق تيابو) , العنب : (عنب وعناب وهدية للأحباب) أو (حفرزلي يا عنب) أو (ياعيني ياعيني على عنب الزيني) , التين الصبار : (الأرامل ما صبروا صبرك يا صبار) , المشمش : (حموي يا مشمش) أو (شكر بكر يا لوزي) , التفاح : (هلأ إجا ,وهلأ راح : بياع التفاح) , الفاصولياء : (غضه وطريه هالفاصولية) أو (عيشه خانم يا فاصولية) , البامياء : (زيتونية هالبامية) (بصغر حبة الزيتون) , الملوخية : (ملوكية هالملوخية) , البندورة (الطماطم) : (يا بندورة يا لبخة , كل كيلو بيعمل طبخة).
لم أقم بحصر كل المناداة وكل الصيغ ولكن هذا بعضها , وهي تختلط , ويرتفع الحداء حتى لا تستطيع أن تميز ما يقوله الباعة , وتتداخل المناداة وكل يسعى لترويج بضاعته التي يبيعها.
وكانت هناك نداءات أخرى لباعة متجولين في الحاضر الكبير وفي شوارع الأحياء أيضاً ؛ بائع العرق سوس : (سوستنا حلاوات , على النبي صلوات) , بياع المنضمينة (فستق العبيد "الفول السوداني" المغطى بالسكر المذاب) : (تعال حلي سنونك , والقلب يدعيلك) بائع المثلجات على دراجة الكهل النصراني أبو الزاكي (أكّال الطيب ياكل هنا , الطيب للطيبين , هي زبدة على بيريت "قشدة من حليب الغنم والماعز تؤخذ منه على برودة) , بياع المعلل (تفاح صغير مطلي بغشاء سكري ملون زهري , ومغروس على عود) : (معلل يا مدلل).
وكان بين البائعين بعض الشباب الطائش الذي لم يتعلم في مدرسة , ولم يؤدبه مؤدب, فكانوا يتحرشون بالصبايا القادمات مع أهليهم من البادية , وقد عاصرت حادثة تشاجر فيها صاحب البسطة الذي كان يردد (ميِل يا غزيِل) , ويتبعها بعبارات من الغزل الفاجر مع بدوي شاب كان بصحبة أخـته الشابة , وأدى الأمر إلى حضور الشرطة التي أنصفت البدوي , وسجنت الشاب المستهتر لأسابيع.
أعود والعودَ أحمدُ إلى المسجد الشرقي مركز الحياة في الحي , وأتركه لأستكمل الحديث عن الحي الذي لا ينام , فإذا توجهت إلى الشمال من باب المسجد باتجاه (طلعة الجبرانية) , ومشيت على الحجر الأزرق المرصوف بدقة وعناية وقوة وجمال على شكل مربعات ومستطيلات , وبدأت بالصعود في مرتفع الجبرانية , سأتجاوز عن اليمين زقاقاً يصعد بشكل متعرج وأشد ارتفاعاً نحو الشرق , وأترك الخباز "حمدو طعمة" الذي تزوده الحكومة بالدقيق , ويزودنا بالخبز كل صباح في مدخل الزقاق هذا على جهته اليمنى.
وأتابع الصعود فسيكون على يميني دكان للحلاق أبو يوسف صهر آل العساف , ودكان أخرى مبنية على طرف الأرض المهجورة للشيخ "أحمد هبرة" أبو ماجد ,ثم محل خاص لتصليح الدراجات عبد الرحمن منصور " أبو ماهر" ثم تأتي دار لها درجة أمام باب البيت المرتفع غالباً ما يجلس عليها "أبو فيصل" وهو صاحب الفرن المجاور للمدرسة الجديدة "صقر قريش" , ثم تنفتح على اليمين ساحة صغيرة مبلطة وفي صدرها أكثر من بيت لآل "مرعي" في بناء حجري جديد , فإذا أردت أن تتابع الصعود فسيكون في الساحة الصغيرة على يمينك دار لآل "الآغا" يتجه بابها نحو المسجد الشرقي.
وكان فيهم رجل متعلم يقرأ ويدعو إلى فكر لم أستطع أن أميزه هو "الأستاذ أحمد", وكان غالباً ما يحمل بيده قصبة صيد السمك وهو متجه نحو العاصي كأحد المفكرين العظام , ويقابله في الجهة الأخرى من الشارع على الزاوية بيت به يبدأ الشارع الصاعد مباشرة من الشرقية بشكل مستقيم , وهذا البيت فيه أجيال ثلاثة ؛ الجد , "صالح عيلان" وكان يؤذن في المسجد الشرقي , والابن وكان يعمل حمالاً على عربة يجرها الحصان الذي يسكن على باب البيت (على الرصيف) والحفيد الشاب محمد الذي كان يساعد الأب في مهنته.
ويجاورهم بيت آخر , ثم يأتي على الجهة ذاتها بيت عبد الرزاق "أبي مصطفى الهبرة" وكان يعمل في طب الخيول , وقد خرَّج أولاداً متعلمين : أساتذة ومهندساً , وباب بيته متجه نحو الشرق , لكن البناء يلتف جداره الشرقي ليصبح متجهاً نحو الشمال لأن الشارع المستقيم ينفتح على الشارع الموازي وتصبح دار آل الهبرة على الزاوية , ويقابل الجدار في الزقاق المنفتح بيتان جديدان للأخوين "محمد , ومحمود برّاك" , وكان ولدا الثاني مقيمان في بيروت قبل أن يعودا إلى الحي , وبين الدارين كانت هناك شجرة وارفة الظلال من أشجار الزينة.
وأعود إلى بداية الشارع فخلف دار آل "الآغا" مباشرة زقاق يتجه إلى جهة الشرق , ولكنه يلتف في داخله إلى الشمال , وفيه من السكان ما يشبه حياً في شنغهاي : حتى أنك لا تميز الداخل إليه من الخارج , فيه من الأسر : بيت العقاد ابنهم "فراس" , وبيت الجحش , وبيت حسن منصور , وشقيقه عبد الرحمن , وينتهي الزقاق بأسرتين كبيرتي العدد "مصطفى الهبرة , وشاكر الهبرة " وكان لكل واحد منهم العديد من الأولاد , ويجاورهم "عبد الغني" , و"عبد الكريم" , وأخوه الأستاذ الموظف اللطيف "محمد" الذي كان شخصية فريدة من نوعها , كان مهذباً , أديباً وشاعراً , يهوى مجالس الأدب والعلم , وينتقي من الناس من يماثله الطباع ليكون له مرافقاً ..
وقد صادف أن التزم بالصحبة الأستاذ "مفيد العظم , أبا نبيل" , فمشى معه في كل دروبه مع فارق السن والمنبت ؛ وهو يستطيع أن يحل لك أي مشكلة في البلد بلطفه وكياسته , وكثرة معارفه , وكان لا يرد طالب معروف , أو محتاجاً لعونه , وطريقته المميزة في الوصول إلى أصحاب العقد والحل في ذلك بأن يتعرف إلى القريب المقرب من الشخص المطلوب , فيسأله حل القضية , ولو كان حلاقه , أو جاره في السكن , أو قريبه , أو قريب زوجته , ويبقى يستقصي , ويتابع حتى يصل إلى مراده , وبقي هكذا طوال عمره يخدم الناس لوجه الله , وينفق من ماله الخاص (مرتبه) على ذلك حتى أنه نسي أن يتزوج ..
لقد كان نموذجاً وحيداً في بلدنا , شغل كثيراً من الوظائف التي كان لا يُسئل فيها عن الالتزام بالدوام , لذا كان ينقل نفسه من دائرة إلى أخرى إذا أحس بالانزعاج من مديره , أو لاحقه بالأشغال التي لا تناسبه , كان يبدل مكان الوظيفة في صمت وهدوء إلى مكان آخر , وكانت له في نهاية الأمر وظيفة نادرة لم أسمع بمثلها في العالم كله , فلقد كتب مسمى الوظيفة بيده , واستطاع أن يوقعها من وزير السياحة وهي "مراقب للآثار السياحية في مدينة حماة خارج أوقات الدوام الرسمي" , وهذا لا يتطلب دواماً , ولا وقتاً محدداً للمتابعة , وإنما يأخذ من وقته الثمين دقائق ليتناول مرتبه آخر الشهر , رحمه الله , وجزاه خيراً عن كل ما قدم للمحتاجين من عون ومساعدة , وأذكر منها واحدة لنا ..
لقد كنا في السنة 1969م , وفي مدرسة ابن رشد حين اختارت المدرسة أولاد خالي الاثنين ليكونا في شعبة اللغة الفرنسية , وحاولنا جاهدين بكل وسيلة استطعناها أن نتحدث إلى السيد المدير الذي كان من أصدقاء العائلة لينقل الطالبين إلى شعبة من شعب اللغة الإنكليزية , ولكنه أبى , عند ذلك طلبنا من الأستاذ محمد الهبرة العون , فاستجاب فوراً , وقال : غداً - إن شاء الله – سيداومان في شعبة من شعب اللغة الإنكليزية , ولا تسلني عن الواسطة التي استخدمها ليجبر السيد المدير على تنفيذ رغبتنا , فأنا لا أعلم.
إن أمد الله في العمر , وساعدت الصحة والعافية فسيكون لنا لقاء آخر مع الأحباب الذين أصابحهم , وأماسيهم في الخاطر دوماً لنذكر المزيد من الذكريات عن الحي الذي لا ينام , حي من أحياء مدينتنا المجيدة".

بقلم: د. أحمد رياض منصور
هل اعجبك الموضوع :
التنقل السريع