ليس هذا المنشور لتداول الآراء حول مدى التزام جميع الفرق الصُّوفيَّة في مدينة حماة بمنهج الاتِّباع وعدم الابتداع، وإنَّما هو سردٌ تاريخيٌّ من الذَّاكرة لما كانت عليه هذه الطُّرق في مدينة حماة على أيَّامنا.
فمن المعلوم أنَّ الصُّوفيَّة كانت في أيَّامها الأولى في التَّاريخ الإسلاميِّ ترمي إلى تهذيب النَّفس وتزكيتها والبعد بها عن ملذَّات الحياة الدُّنيا وشهواتها، وقد مثَّل التَّصوُّفُ تيَّارًا عرف بتيَّار (الزُّهد) عبَّر عنه بعض الشُّعراء في العصر العبَّاسيِّ، كان بمثابة ردَّة الفِعل على تيَّار الفساد والمجون وغلبة المادَّة على مناحي الحياة.
أمَّا كلمة (صوفيّ) فقيل: إنَّها جاءت من لباس الصُّوف الخشن الَّذي كان يرتديه بعض المتصوِّفة لإظهار مدى زهدهم بملذَّات الحياة ومظاهرها البرَّاقة، وقيل: إنَّ كلمة (الصُّوفيِّ) جاءت من صفاء النَّفس ونقائها، حيث كنَّا كثيرًا ما نسمع من المتصوِّفة قولَهم: (صَفا فصوفِيَ حتَّى سُمِّيَ الصُّوفي). وقد انضوى تحت كلمة (صوفيّ) العديد من الفرق كان فيها المعتدلون، وكان فيها غلاة المتصوِّفة الَّذين قُتِلَ بعضهم لإظهارهم عقائدَ شِرْكيَّةً لا تتَّفق مع عقيدة التَّوحيد.
ومن الطُّرق الصُّوفيَّة الَّتي انتشرت في سوريَّة: الطَّريقة (القادريَّة، والطريقة الرِّفاعية، والطَّريقة الشَّاذليَّة، والطَّريقة النَّقشبنديَّة، والطريقة المَوْلَوِيَّة..).
أمَّا في مدينة حماة فتعدُّ الطَّريقة (القادريَّة) المنتسبة إلى الشَّيْخ عبد القادر الجيلاني أقدم هذه الطُّرق، وقد توارثها أحفاد الشَّيخ عبد القادر من السَّادة الأشراف من آل الكيلاني مدَّةً طويلةً من الزَّمن، وسار على نهجها العديد من علماء حماة حتى انتهت إلى الشَّيْخ محمود الشُّقفة رحمه الله.
وقد أجيز أيضا بالطريقة (الرِّفاعيَّة) التي تنسب إلى الشَّيخ (أحمد الرِّفاعي) وقد أجيز فيها الشَّيْخ محمود عن الشيخ عبد الرَّحمن السَّبسبي، وأخذها عنه ثلَّةٌ من تلاميذه منهم: الشّيخ بسَّام هبرة، والشّيخ محمد ياسين الحسني، والشّيخ محمد علي الشُّقفة، والشّيخ محمد أديب كلكل، والشّيخ محمد نبهان الخباز، والشّيخ مصطفى الفرَّان، والشّيخ فاروق الشُّقفة وآخرون.
وممَّن نهج منهج الطريقة الرِّفاعية من غير هؤلاء القوم نفرٌ يضربون أنفسهم بـ (الشِّيش) الذي هو السِّيخ المَعدِنيُّ يغرزونه في أحد طَرَفيْ الحنك ويُخرِجونه من الطَّرَف الآخر، أو يغرزونه بطرَف الخاصرة عند غلبة الوجد عليهم، وعند تفاعلهم مع الطُّبول وأناشيد الذِّكر.
وكنتُ قد حضرت عند هؤلاء في المزَّة في دمشق في بيت شيخهم الشّيخ (قدُّور) الَّذي كان عريفًا متطوِّعًا في الجيش عندما كنت طالبًا في الجامعة من باب حبِّ الاستطلاع، غير أنَّني لا أذكر لهم مجلسًا في حماة سوى في مرَّةٍ واحدةٍ في بيتٍ عربيٍّ واسعٍ في حيِّ عَيْن اللَّوْزة، جاء فيه بعض أتباع هذه الفرقة ضيوفًا من الجزيرة، واستعرضوا ما يسمُّونها بـ (الكرامات) في تلك اللَّيلة.
وقد حدَّثني الوالد رحمه الله أنَّ هؤلاء كانوا يحضرون إلى حماة في بعض الأعياد والمناسبات بالقرب من جامع النُّوري ويقفزون على الجمر، ويمرُّون بخيولهم من فوق النِّيران المشتعلة، ويلعبون بالثَّعابين، وغير ذلك..
لكنْ على عهدنا نحن كانت الطَّريقة (الشَّاذليَّة) هي الأوسع انتشارًا، وكان أتباع هذه الطَّريقة يقيمون أذكارهم وما يُسمُّونه بـ (الحَضرة) في دارٍ في حيِّ الكيْلانيَّة عرفت بـ (دار الفقراء)، و(الفقراء) تعبيرٌ عن المتصوِّفة الذين استأثروا بهذا الاسم للتَّدليل على فقرهم إلى الله تعالى لا فقرهم من حيث الكسبُ والغنى الماديُّ..
وقد كان يشكِّل الحضرةَ مجموعةٌ من الذَّاكرين يُنشدون الأناشيد في حبِّ الله تعالى، ومديح الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام، وتزكية مشايخهم الذين يَعدُّونهم من أوْلياء الله الصَّالحين، وكانت الحركات الجسديَّة تتوافق مع سرعة الإنشاد أوْ بُطئه، ومع إشارات الشَّيْخ الَّذي يطوف في وسط الحلقة..
كان الجميع يردِّدون في الحَضرة أوْ في حلقات الذِّكر هذه: (الله... الله... الله... الله...) غير أنَّ اسمَ الجلالة ما كان ليظهرَ جليًّا إذا ما اشتدَّت الحركات، وغلبت على المَوقف الصَّرَخاتُ والنَّغمات، وهنا سأتحدَّث أيضًا عمَّا سُمِّى بـ (الحال) وفيه يغيب الذَّاكر عن الوَعي، وقد يقع على الأرض مغشيًّا عليه، وهو يبكي أو يصرخ، وهذا ما عرف في هذه الأوساط بقولهم: (إجاه الحال).
كانت دار الفقراء في البداية هي التي تقام فيها هذه الحَضْرات، كما تقام فيها الدُّروسُ الفقهية لأتباع هذه الطَّريقة، ثمَّ انتقلت الحَضرةُ إلى جامع النُّوري، فجامع الأحدب، فجامع المَسعود على ما أذكر.
والفرقة الشَّاذليَّة في حماة كانت تتبع الشَّيخ: (عبد القادر عيسى) في حلب، وكان من أبرز أتباعِها في حماة: (الشَّيْخ سعد الدِّين المُراد، وأخوه الشَّيْخ أنس المُراد، والشَّيْخ فارس سالمة، والمُهندس معاوية علوش، والشَّيخ عبد المجيد قنُّوت الذي آلت إليه مشيختها الآن، وآخرون).
لمَّا اشتهر الشَّيخ (أديب كلكل) رحمه الله تعالى تبنَّى الطَّريقة القادريَّة وسلك في الذِّكر طريقةً مشابهةً من حيث الأناشيدُ والتحلُّقُ غير أنَّه كان يشدِّد على أن تخرج من أفواه الذاكرين كلمة (الله) في أثناء الذكر من الفم واضحة، ولمْ يكن ليسمحَ بالتحرُّك الكثير في أثناء الذِّكر ممَّا لاقى استحسانًا من كثيرٍ من الشَّباب، فجذبهم إلى الجامع الشَّرقيِّ في حيِّ الشَّرقيَّة الذي كان يقيم الحَضرة فيه.
أما الطَّريقة الرابعة في حماة فهي الطَّريقة: (النَّقشبندية) التي تنتسب إلى الشَّيْخ محمد بهاء الدِّين نقشبند وكان من أبرز مريديها شيخ من آل (الحلبي) لم أعد أذكر اسمه الأوَّل، والشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى، وبعض تلاميذه، وقد كان أتباع هذه الفرقة يقيمون أذكارهم في حلقة بعد العِشاء في جامع السلطان وهم جالسون في ظل الأضواء الخافتة بعد درس الشيخ محمد الحامد، وكانت أورادهم تعتمد الذِّكر الخفيَّ الذي يكون بالقلب، يردِّدون مفاتيح الوِرْد التي يُلقِّنهم إيَّاها الشَّيْخ في الحلقة، وهم يشتركون مع الشَّاذليَّة في موضوع غلبة الحال على بعضهم في أثناء الصَّلاة أو في أثناء الوِرْدِ والذِّكْر.
ولا بأس أن أشير في الختام إلى الطريقة: (المَوْلَوِيَّة) المنسوبة إلى جلال الدِّين الرُّوميِّ الذي عاش معظم حياته في مدينة قونية التُّركيَّة، وهذه الطَّريقة الَّتي اشتهرت بما عُرِف بالرَّقص الدَّائريِّ لساعاتٍ طويلةٍ على أنغام النَّاي لم تكن منتشرةً في حماة، وإنَّما اشتهرت في أحد مساجد دمشق مقابل محطَّة الحجاز، ثم عمَّت في جميع المحافظات السُّوريَّة ومنها حماة، وغلبت عروضها في هذه الأيَّام على حفلات الزَّفاف والأفراح مع ضاربي السَّيْف والتُّرس وفرق الأناشيد الأخرى التي تعتبر الوريث الشَّرعيَّ للطُّرق الصوفيَّة.
بقلم: محمد عصام علوش